فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{ذلك} أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بأنهمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب، والمراد بالأيام المعدودات أيام عبادتهم العجل، وجاء هنا {معدودات} بصيغة الجمع دون ما في البقرة (80) فإنه {مَّعْدُودَةً} بصيغة المفرد تفننًا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع {وَغَرَّهُمْ في دِينِهِم} أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار} الخ قاله مجاهد أو من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قاله قتادة أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم والظرف متعلق بما عنده أو بيفترون واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله؛ وأجيب بالتوسع. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{ذلِكَ بأنهمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. ولنا أن نعرف معنى {غرهم} ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: أنت مغرور فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود. إذن فالغرور هو الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل، ولذلك يسمى الله الشيطان الغرور.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5- 6].
إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها، وعندما تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها، فهي مما زينه الشيطان، لذلك فحصيلتها لا تتناسب مع الطمع فيها. والحق سبحانه يقول عن الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة: أنه غِرٌّ فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فلا ينتفع منها، ولا تصح. إذن، فكل مادة الغرور مأخوذة من إطماع فيما لا يصح ولا يحصل. لذلك سمى الله الشيطان الغرور لأنه يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
ما معنى {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ}؟ السلطان أي القوة التي تقنع الإنسان بعمل فعل ما، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما، فتفعله، وإما أن يكون سلطان القوة، فيرغمك أن تفعل، السلطان- إذن- نوعان: سلطان حجة، وسلطان قوة، والفرق بين سلطان الحجة وسلطان القوة القاهرة على الفعل، هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان، ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة: لم يكن لي سلطان عليكم، لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي، ولا عندي قوة ترغمكم على الفعل، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي.
ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده، إن كلمة يصرخ تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة. الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب الله، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله، وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين الله، فافتروا أقوإلا على الله، لم تصدر عنه، وصدقوا افتراءاتهم، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، أنه مستمر، لأن منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24].
والإفتراء هو تعمد الكذب، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول: إن حصل ذلك منكم وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل، وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه، إن ذلك كله غرور وافتراءات، ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الافتراءات، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب، فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}. اهـ.

.سؤالان وجوابان:

الأول: أيمكن للإنسان أن يختلق كذبًا أو إفتراءًا وينسبه إلى الله، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إنّ العقل الإنساني يسعى أحيانًا إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيرًا ما نشاهد أُناسًا ملوّثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تمامًا قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءًا كاذبًا على ضمائرهم، وكثيرًا ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال.
السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع- ولم تعن بالبحث عن الحقيقة- بصورة عقائد مسلّم بها.
السؤال الثانى: يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد بالعذاب لأيام معدودات منتشر بيننا نحن المسلمين أيضا، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيرًا من العذاب.
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبديًا خالدًا. وإذا وجد حقًّا بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ امتياز خاصّ للمسلمين، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضا، بغضّ النظر عن عنصرها. أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري. وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة: {بل أنتم بشر ممّن خلق}. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (25):

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفًا القول إلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة: {فكيف} أي يكون حالهم {إذا جمعناهم} أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة.
ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال: {ليوم} ووصفُه بقوله: {لا ريب فيه} مشعر- كما قال الحرالي- بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم.
ولما كان الجزاء أمرًا متحققًا لابد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله: {ووفيت} والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها وقوله: {كل نفس} قال الحرالي: الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره، فهي التي توفي، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها، فمتى نفست فتملكت ملكًا أو تشرفت مُلكًا خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل- انتهى.
ولما كان هذا الجزاء شاملًا للخير والشر قال: ما أي جزاء ما {كسبت} فأتى به مخففًا ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة، وراعى معنى كل للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل {وهم لا يظلمون} أي لا يقع عليهم ظلم بزيادة ولا نقص، ولا يتوقعونه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}.
فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وفي الكلام حذف، والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيرًا مع كيف لدلالته عليها تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
أما قوله تعالى: {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} ولم يقل في يوم، لأن المراد: لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه، قال الفرّاء: اللام لفعل مضمر إذا قلت: جمعوا ليوم الخميس، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلًا وأيضا فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب، وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه.
ثم قال: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف، والتقدير: ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.
ثم قال: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا ينقص من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات.
واعلم أن قوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} يستدل به القائلون بالوعيد، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار، أما الأولون قالوا: لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة، والآية دلّت على أن كل نفس توفى عملها وما كسبت، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.
وجوابنا: أن هذا من العمومات، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات.
وأما أصحابنا فإنهم يقولون: إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلابد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع، وإما أن يقال: يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبدًا مخلدًا وهو المطلوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟.
قلنا: هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة، وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر، والمنازع فيه مكابر، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول: ثواب إيمان لحظة، يسقط كفر سبعين سنة، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة، ولا شك أنه كلام ظاهر. اهـ.

.قال القرطبي:

خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأُمّتِه على جهة التوقيف والتعجُّب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم.
واللام في قوله: {ليوم} بمعنى في؛ قاله الكسائي.
وقال البصريون: المعنى لحساب يوم.
الطبريّ: لما يحدث في يوم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} تفريع عن قوله: {وغرهم في دينهم} أي إذا كان ذلك غرورًا فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازًا.
وكيف هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق، و{إذا} ظرف منتصب بالذي عمِلَ في مظروفه: وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك: كيف أنت إذا لقيت العدوّ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} في سورة [النساء: 41]. اهـ.